فصل: تفسير الآيات (72- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (69- 71):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [69- 71].
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} أي: تخفي: {صُدُورُهُمْ} أي: من الكيد المكر: {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: من الأقوال والأفعال: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} أي: لأنه المولى للنعم كلها في الدارين: {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي: القضاء النافذ في كل شيء. يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته. ويحكم عليه بموجب إرادته: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بالبعث للجزاء: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي: هذا الكلام الحق، سماع تدبر.

.تفسير الآيات (72- 76):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [72- 76].
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي: هذه المنفعة فتقوموا بشكرها: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي: في الليل: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: في النهار: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: نعمه الظاهرة والباطنة، والجسمانية والروحانية، باستعمالها فيما وجب من طاعته. وذلك فيما خلقت له.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا} أي: وأخرجنا: {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي: نبيّاً يشهد عليهم بما كانوا عليه. كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41]، {فَقُلْنَا} أي: لكل أمة من تلك الأمم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: على ما أنتم عليه. أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم. وظهر برهان النبيّ، كما قال تعالى: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي: في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد: {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي: غاب عنهم غيبة الضائع: {ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: من الباطل والمذاهب المختلفة، والطرق المتشعبة المتفرقة.
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي: بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا، لغرور وتعززه برؤية زينة نفسه: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} أي: من الأموال المدخرة: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} أي: مفاتيح صناديقه. على حذف مضاف. أو الإضافة لأدنى ملابسة. وقيل خزائنه: {لَتَنُوءُ} أي: تثقيل: {بِالْعُصْبَةِ} أي: الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال: {أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} أي: بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي: هذا الفرح، لما فيه من إيثارها عن الآخرة، والرضا بها عنها، والإخلاد إليها. وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.

.تفسير الآيات (77- 78):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [77- 78].
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} أي: اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك، بعد الفاقة: {الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب. وتجعله زادك إلى الآخرة: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك: {وَأَحْسِنْ} أي: إلى الناس. أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة: {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي: بطرق التجارة أو المكاسب: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} أي: مما سمع بالتواتر: {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} أي: الكثيرة، بحيث صارت سنة له: {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} أي: بالأموال والأتباع: {وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال، ليعتذروا عنها. بل متى حق عليها القول بفسقهم، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر. ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (79- 82):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [79- 82].
{فَخَرَجَ} أي: قارون باغياً: {عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي: مُغْتَرّاً بالنظر فيها: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: جرياً على سنن الجبلة البشرية، من الرغبة في السعة واليسار: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} أي: مما تتمنونه: {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا} أي: هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم. أو الجنة. أو السيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح: {إِلَّا الصَّابِرُونَ} أي: على الطاعات عن الشهوات، وعلى زمام النفس أن تجري في أعقاب المزخرفات. وويلك في الأصل دعاء بالهلاك. والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني، مجازاً. وهو منصوب على المصدرية: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ} أي: المشتملة على أمواله: {الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: بدفع العذاب عنه: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أي: بقوة نفسه وما له: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: من شقيّ وسعيد: {وَيَقْدِرُ} أي: يقبض. فلا دلالة في البسط على السعادة. ولا في القبض على الشقاوة. بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقَدْر بمحض مشيئته، لا لكرامة توجب البسط، ولا لهوان يقتضي القبض: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي: بعدم إيتائه متمنانا: {لَخَسَفَ بِنَا} أي: كما خسف به: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي: لنعمة الله في صرفها في غير سبيلها. أو المكذبون برسله اغتراراً بزخارفهم.
فائدة:
في ويكأن مذاهب:
الأول: أن وي كلمة برأسها. وهي اسم فعل، معناها أعجب. أي: أنا. والكاف للتعليل. وأن وما في حيزها مجرورة بها. أي: أعجب لأن الله يبسط الرزق الخ. وقياس هذا القول أن يوقف على وي وحدها، وقد فعل ذلك الكسائيّ.
الثاني: أنه مركب من وي للتعجب وكأن للتشبيه. والمعنى: ما أشبه الأمر أن الله يبسط. أي: ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقاً إلى آخرٍ، أمرَ قارون وما شوهد من قصته. والأمر مأخوذ من الضمير. فإنه للشأن. والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال، أنه لتحققه وشهرته، يصلح أن يشبه به كل شيء. كما أشار إليه في الكشف.
الثالث: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه. إلا أنه ذهب منها معناه. وصارت للخبر واليقين. وهذا أيضاً يناسبه الوقف على وي.
الرابع: زعم الهمداني في الفرائد أن مذهب سيبويه والخليل أن وي للتندم. وكأنّ للتعجب. والمعنى: ندموا متعجبين في أن الله يبسط الخ.
قال الشهاب: وكون كأن للتعجب، لم يعهد.
الخامس: ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من ويك بمعنى ويلك فخفف بحذف اللام. والعامل في أن اعلم، المقدر. والكاف على هذا ضمير في محل جرّ. وهذا يناسب الوقف على الكاف. وقد فعله أبو عَمْرو.
السادس: أن ويك كلمة برأسها. والكاف حرف خطاب. ويقرب هذا مما قبله. قال أبو البقاء: وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد. والثاني: أن تقدير وي اعلم، لا نظير له، وهو غير سائغ في كل موضع. انتهى.
السابع: أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة. ومعناها ألم تر. وربما نقل ذلك عن ابن عباس. ونقل الفرّاء والكسائيّ أنها بمعنى: أما ترى إلى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رحمة لك في لغة حمير. ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين. فعامة القراء اتبعوا الرسم. والكسائيّ وقف على وي وأبو عَمْرو على ويك.
وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين. وعندي أنها مركبة من وي للتعجب وكأن التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة. والوقف على وي. ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة، لأن الكتابة- كما قال ابن كثير- أمر وضعيّ اصطلاحيّ، والمرجع إلى اللفظ العربي.
وقد اتفق اللغويون على أن وي كلمة تعجب. يقال ويك ووي لزيد، وتدخل على كأن المخففة والمشددة، ومن شواهد الأولى قول الشاعر:
سَالَتَانِي الطلاقَ أَنْ رَأَتَانِي ** قَلَّ مَالي قد جئتماني بنُكْرِ

ويْ كأنْ من يكُنْ لَه نَشَبٌ يُحْ** بَبْ ومن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ

وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته، بلهَ الاستعمال إلى هذه الأجيال.
قال ابن كثير: وقد ذكر هاهنا إسرائيليات، أضربنا عنها صفحاً. ونحن تأسينا به، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويّه، الموقوف والضعيف الذي سوّدت به الصحف.
ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون، من حال خلص عباده، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (83- 84):

القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [83- 84].
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} أي: غلبة وتسلطاً بسوء وتكبّر: {وَلا فَسَاداً} أي: بظلم وعدوان وصدّ عن سبيل الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ} أي: النهاية الحميدة: {لِلْمُتَّقِينَ} أي: الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال.
قال الزمخشري، قدس الله روحه: لم يعلق الموعد بترك العلوّ والفساد. ولكن بترك إرادتهما، وميل القلوب إليهما. كما قال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113]، فعلق الوعيد بالركون. وعن عليّ رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه. فيدخل تحتها.
وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا. وعن عُمَر بن عبد العزيز، أنه كان يرددها حتى قبض. ومن الطُّمَّاع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون، متعلقاً بقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [4]، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [77]، ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون، فله تلك الدار الآخرة. ولا يتدبر قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كما تدبره عليّ والفضيل وعمر رضي الله عنهم {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} معناه: فلا يجزون إلا.. إلخ. فوضع فيه الموصول والظاهر، موضع الضمير، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، والزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين. ومعنى قوله: {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: مثله. وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها. ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة. وهو معنى قوله: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} كذا في الكشاف.

.تفسير الآيات (85- 86):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} [85- 86].
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي: أوجب عليك تلاوته على الناس، وتبليغه إليهم، وصدعهم به: {لَرَادُّكَ} أي: بعد الموت: {إِلَى مَعَادٍ} أي: مرجع عظيم. وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه. فتنوينه للتعظيم، ووجهه- كما في العناية- أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر. لأنه ابتداء العود إلى الحياة، ورده على ما كان عليه فجعل معاده عظيماً لعظمة مقامه فيه.
وقال ابن كثير: المعاد هو يوم القيامة. يسأله عما استرعاه من أعباء النبوّة. كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، وقال: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69] وعن ابن عباس روايات: إلى يوم القيامة. إلى الموت. إلى الجنة أخرجت عنه من طرق. كما أسنده ابن كثير.
والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وعن الضحاك قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة. فنزلت الآية.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيّاً، والله أعلم.
ثم قال: ووجه الجمع بين هذه الأقوال، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح، الذي هو عند ابن عباس على اقتراب أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم. كما فسر ابن عباس سورة: إذا جاء نصر الله والفتح، أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه، وكان ذلك بحضرة عُمَر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت. وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت. وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس. ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق. انتهى.
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} يعني نفسه الكريمة. أي: بما يستحقه من المثوبة: {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعني المشركين. أي: بما يستحقونه من العذاب. والجملة تقرير للوعيد السابق: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي: ما كنت تظن، قبل إنزال الوحي إليك، أن الوحي ينزل عليك: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} أي: معيناً لهم. ولكن نابذهم وخالفهم. وحكى الكرماني في الغرائب أن معناه: فلا تكن بين ظهرانيهم، وأنه أمر بالهجرة.